لماذا يقولها الشامي لمن خرج لتوه من الحمام؟ ولماذا يقال بالمثل الشامي القديم (دخول الحمام مو متل طلوعه)؟
الحمام الدمشقي
بالفعل .. إن من يعرف حقيقة دخول الحمام سيدرك فعلاً أن دخوله ليس كالخروج منه .. البيوت العربية الدمشقية على اختلاف مساحاتها واختلاف تصاميمها كانت تتفق بتوزيع الغرف على نحو واحد .. فكل البيوت الدمشقية تملك (ليوان ) وكلها تملك ئاعة (قاعة) لاستقبال الضيوف، ومخدع، وبيت مونة، ومشرئة (مشرقة) ومطبخ، وأرض ديار يتوسطها بحرة، وشجرة كباد ونارنج وليمون وما إلى ذلك .. إلا أنها كانت تفتقر لوجود حمام للاستحمام داخل البيت .. اللهم إلا تلك البيوت الكبيرة والواسعة والتي قد تجد فيها (حمام) لأهل البيت.
الحمّام كان دوماً خارج البيت الدمشقي .. و في كل حارة كان يوجد حمام خاص بأهلها يدعى (حمّام السوق) يؤمّه الراغبون بالاستحمام .. ليس للنظافة والطهارة وحسب، بل يعد الذهاب إلى الحمام متعة في حد ذاته .. فيه ترويج عن النفس ومتنفس لأهالي الحي .. يجتمعون فيه بجيرانهم وأقاربهم ويتجاذبون أطراف الحديث والضحك والمسامرة .. فيشعر الداخل إلى الحمام المزخرف بالرخام والقيشاني بشعور المستجم والمستحم. أي انه سيزول عنه في هذا المكان قذارة جسمه وهَمَّ قلبه. وكذلك الأمر بالنسبة للنساء .. فحَمّام السوق كان مكاناً لاجتماع النسوة فيما بينهم بمناسبات عدّة، كحمّام الخطبة والزفاف والوﻻدة وما إلى ذلك .. وبحسب أقسام الحمّام المعروفة للجميع وهي “الجوّاني و الوسطاني والبرّاني” فإن الشخص بعد استقباله من قبل “المصطبجي” الذي يسلّمه ملابس الاستحمام فيرتديها ويدخل إلى الجواني حيث البخار المتصاعد والحرارة المرتفعة بفعل تسخين الماء على حرارة عالية في ال (القميم) الذي يشرف عليه “القميمي” وهناك يتم تكييسه من قبل “المكيّس” .. عملية التكييس هذه تتم من قبل شخص محترف بواسطة (كيس) يُلبس بالكف وهو من قماش خشن نوعاً ما يساعد على تقشير البشرة وتساقط الخلايا الميتة، والتي تزول عن الجسم بسهولة نتيجة البخار المتصاعد في الجوّاني .. يعتبر التكييس (التفريك) بمثابة مساج وتدليك قوي يساعد على تنشيط الدورة الدموية في الجسم وبث الدم في الأوردة فيشعر الشخص بنشاط وحيوية ناهيك عما يعتريه من إحساس جميل بشعور النظافة الشخصية والرغوة التي تغطيه ورائحة صابون الغار وزيت الزيتون التي تملأ المكان .. والتي تعتبر بحد ذاتها علاجاً طبيعياً للبشرة.
بعد التكييس يُصب عليه خليط من الماء الساخن والبارد الذي يُغرف بوعاء نحاسي اسمه “طاسة” من داخل وعاء كبير من الرخام يدعى “الجرن”، ولكل شخص مقصورة خاصة به فيها جرنه .. حتى إذا ما انتهت هذه المرحلة خرج المستحمّ إلى القسم الثاني وهو الوسطاني ملتفاً بالمناشف، و يتميز الوسطاني بدرجة حرارة أقل نسبياً .. يأخذ فيها الشخص قسطاً من الرّاحة ويقدّم له بعض المشروبات الساخنة كالشاي والزهورات .. وهنا تبدأ رحلة من المتعة من نوع آخر، حيث يجلس مع أصحابه او معارفه فيتحدثون ويتسامرون .. وفي بعض الأحيان ينشدون مواويل وأغنيات الطرب الدمشقي برفقة عزف على العود والدّف .. أما إن كان من بين الأشخاص شاب عريس فيقوم رفقائه بعمل عراضة له داخل الحمام.
وكذلك الأمر بالنسبة للنساء اللواتي يغتنمن فرصة اجتماعهن فيغنينَ ويرقصنَ للترفيه عن أنفسهنَّ بعيداً عن هموم الأطفال وأعباء المنزل، قد يطلقن الزغاريد (الأوها والزﻻغيط) بحسب المناسبة .. وتأتي الفتاة برفقة والدتها وإخوتها عادة .. وإن كانت متزوجة تذهب مع حماتها وسلفاتها وبنات حماها (يعني الذهاب للحمام بالنسبة للنساء كان عائلي وﻻ تدخل المرأة الحمام وحدها إلا في القليل) وتجد العديد من النسوة فرصة كي تخطب لولدها الأعزب إحدى الفتيات المتواجدات في الحمّام إن أعجبتها إحداهن .. خاصة وأن الفتاة تكون حينها بلا زينة (بلا غندرة) فترى وجهها وشعرها على طبيعت .. تجلب النساء معهن إلى الحمام بعض الأطعمة والمشروبات والفاكهة وأهمها البرتقال .. حيث تخرج الواحدة منهن من الجواني شديدة العطش فتتسابق إلى صحن الفاكهة لتناول البرتقال .. ومن باب المزاح والفكاهة كانت بعض النسوة تتناول الثمار وﻻ تترك لصديقاتها إلى القشر ليبدأ حينها العتب المحبب لأجل الضحك وخلق جو من المرح ..كل شيء في حمام السوق أطيب و ألذ والسبب هو الصحبة وجو الألفة .. و كذلك الشعور بالنظافة يعطي إحساساً كبيراً بالارتياح النفسي.
بعدها تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة (البراني) وهذا القسم من الحمام يتميز باعتدال حرارته لتقارب حرارة الطقس في الخارج يرتدي فيها المستحم ملابسه النظيفة كلياً .. ويرتاح فيها إلى جوار البحرة .. ويستعد للخروج من الحمام دون الخوف من الإصابة بالبرد والزكام لأن التنقل في أقسام الحمام الثلاثة أتاحت للجسم ان يسترد درجة حرارته الطبيعية الملائمة للتكيف مع الطقس في الخارج فيخرج منه بأمان.
من هنا جاء المثل (دخول الحمام مو متل طلوعو)
يخرج المستحم من حمام السوق بنفسية نضرة مرتاحة، تشعره أنه كان متنعماً بنعمة النظافة والاغتسال رامياً ورائه ما أتى به من اتساخ الجسد و ران الروح .. مما يعطيه شعوراً بالصفاء النفسي .. لذلك كان أهل الشام وكل القدامى بشكل عام يعتبرون بأن (الحمام) هو نعيم الدنيا .. نعيم مابعده نعيم .. فيتبادلون في ختام حمامهم عبارة (نعيماً) فيجيب أحدهما الآخر (الله ينعم عليك دنيا و آخرة) حتى أنه كانت هناك عادة شامية تكاد تختفي اليوم وهي أن الفتاة أو الولد أو الشاب بعد انتهائهم من الحمام كان عليهم أن يقبلوا يد من هم أكبر منهم سناً كأبيه أو جده أو خاله او عمه .. وتدعى هذه القبلة (بوسة الحمام ) وترمز إلى الامتنان والتقدير لذويهم لاصطحابهم إلى هذا المكان الرائع.
ماضينا جميل جدا … وكل عاداتنا كانت صحية بحتة تخلينا عنها لنلحق بالركب الغربي والريتم السريع، فصار الاستحمام عبارة عن دوش يومي سريع ليس له أي نكهة .. يعطي النظافة فقط ولكن ﻻ يمكن ان يمنح الراحة النفسية تلك .. وﻻ يمتلك لأي متعة. وها نحن اليوم نلهث وراء غرف الساونا وحمامات البخار والجاكوزي .. ومراكز المساج والتدليك لتنشيط الجسم ومنحه الاسترخاء .. متناسين أننا الأصل في ذلك.